اللغة.. ذاكرة الشعوب وأمٌ للحضارات





اللغة.. ذاك النبراس الذي ينير للأمم طريقها، ذاك الجبل الشامخ الذي يأبى أن يتزحزح عن مكانه ، هذا الجبل يزيد ثراءً وعظمة كلما تقادم سِنُّه، ويزيد بهاءً واخضرارًا كلما قام أصحابه بالاعتناء به.
كانت اللغة دليلا للقادمين من الأجيال التالية، كي يتعرفوا على الحضارات والشعوب التي عاشت في الأزمنة السحيقة، النقوش على أعمدة معبد الكرنك والآثار الفرعونية تعتبر بوصلة للأجيال القادمة وشرح مفصل لما صار في ذاك الزمان.وربما يعتبر "حجر رشيد" من أمثلة الآثار النادرة جدا فهو حسب ما تقول "موسوعة ويكيبيديا"  نصب من حجر الجرانودايوريت مع مرسوم صدر في ممفيس، مصر ، في 196 قبل الميلاد نيابة عن الملك بطليموس الخامس. يظهر المرسوم في ثلاثة نصوص: النص العلوي هو اللغة المصرية القديمة الهيروغليفية المصرية، والجزء الأوسط نص الديموطيقية ، والجزء الأدنى اليونانية القديمة. ثلاث لغات تلاقحت، وأغلبها انقرضت بزوال أهلها وتحول حالها، وتوافدت  لغات وشعوب أخرى على البلد وقامت على أنقاض هذه الحضارة، لتنتج حضارة جديدة ولغة جديدة، ودينا جديدا كلما تقادمت السنون.
وإذا تكلمنا على اللغة العربية فإنها تعتبر من اللغات السامية، شأنها شأن أكثر اللغات السامية انتشارا في عصرنا الحالي كاللغة العبرية. حيث تتميز اللغات السامية بكونها من ضمن أولى اللغات التي استعملت الأبجدية في كتابتها والتي أستوحتها من الأبجدية المصرية، هنا نلحظ التمازج اللغوي ، وهذا لا يدع مكانا للشك أن اللغات ذاكرة للشعوب.
كما يمثل فك شفرة مخطوطات اللغة المسمارية وهي لغة غير سامية أدى لاستعادة اللغات التي كانت مستعملة قديما في العراق لدى السومريين والبابليين. ويقال أن هذه اللغة قد اندثرت في القرن الثالث أو الثاني قبل الميلاد.
كل هذه اللغات التي ذكرناها بعضها اندثر ، والبعض الآخر عاش وأعيد إحياؤه مرة أخرى كاللغة العبرية مثلا ، وبعضها تطور مثل اللغة العربية التي تعتبر من أغنى اللغات على الإطلاق ، وقد زادها القرآن اتساعا وانتشارا، حيث يقول  المستشرق الفرنسي رينان في وصفها: " من أغرب المُدْهِشَات أن تنبت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرُّحل تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها ، وحسب نظام مبانيها ، ولم يُعْرَف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تُبَارى ، ولا نعرف شبيهاً بهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج وبقيت حافظة لكيانها من كل شائبة ".
وقد كان للغة العربية شأن عظيم في" القرون الوسطى الأوروبية " حيث كانت في  عصرها الذهبي آنذاك ، فقد أحيا العرب لغتهم بالعلوم والتجارب والفن والدين والفلسفة والجغرافية ، وأسسوا علوما تجريبية و رياضية كالفيزياء والكيمياء وعلم الجبر وغيرها الكثير،يومها كان لها الأثر البارز في الذي نراه اليوم من تطور واختراعات ورخاء؛ حيث كان الشباب الأوروبي يتفاخر بقول الشعر العربي أمام أقرانه تماما مثل ما نراه اليوم من تفاخر بين العرب في التحدث باللغات الأخرى؛ ولكن لم نتسائل ما الذي أسقطها وأسقط حضارتها ؟إلا توقف أهلها عن البحث ونبذهم للعلم، واهتمامهم بالاختلافات المذهبية والعرقية، هنا توقفت اللغة عن الحياة ..



لذا فاللغة تغنيك إذا أفلست ، وترويك إذا ظمأت ، وتشد من أزرك إذا تكالب العالم عليك، فهي هويتك وذاكرتك، منار مجدك وصَنْعَتِكْ. يوقن الراصدون للتأريخ أن الحضارات تمر بثلاث مراحل فالأولى تتمثل في الثورة والبناء ، والمرحلة الثانية تتمثل في الإزدهار والرقي ، والمرحلة الأخيرة هي السقوط ؛ وبينما نحن نعيش في عصر السقوط فإننا نؤمن بأن هناك ثورة فكرية ولغوية عظيمة ترجع العربية إلى مكانتها المرموقة وتزيح بدورها اللغات الأخرى، وما علينا إلا أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون ونسهم في بناء الأرض باستقلالية ، هنا تعود المياه لمجاريها  .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جمادات مشتاقة للعلوم ذوّاقة

منار المجد